سورة إبراهيم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}
اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد. ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ فيكون فيه فائدة عظيمة وقوله: {الر كِتَابٌ} معناه أن السورة المسماة بالر كتاب أنزلناه إليك لغرض كذا وكذا فقوله: {الر} مبتدأ وقوله: {كِتَابٌ} خبره وقوله: {أنزلناه إِلَيْكَ} صفة لذلك الخبر وفيه مسائل:
المسألة الأولى: دلت هذه الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلاً من عند الله تعالى.
قالت المعتزلة: النازل والمنزل لا يكون قديماً.
وجوابنا: أن الموصوف بالنازل والمنزل هو هذه الحروف وهي محدثة بلا نزاع.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: اللام في قوله: {لِتُخْرِجَ الناس} لام الغرض والحكمة، وهذا يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض، وذلك يدل على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية المصالح.
أجاب أصحابنا عنه بأن من فعل فعلاً لأجل شيء آخر فهذا إنما يفعله لو كان عاجزاً عن تحصيل هذا المقصود إلا بهذه الواسطة وذلك في حق الله تعالى محال، وإذا ثبت بالدليل أنه يمتنع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل ثبت أن كل ظاهر أشعر به فإنه مؤول محمول على معنى آخر.
المسألة الثالثة: إنما شبه الكفر بالظلمات لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية وشبه الإيمان بالنور لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته.
المسألة الرابعة: قال القاضي: هذه الآية فيها دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات: أحدها: أنه تعالى لو كان يخلق الكفر في الكافر فكيف يصح إخراجه منه بالكتاب.
وثانيها: أنه تعالى أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كان خالق ذلك الكفر هو الله تعالى فكيف يصح من الرسول عليه الصلاة والسلام إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول: إنك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصح منك أن تخرجنا منه فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع، فلهم أن يقولوا: إن كان تعالى سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج وإن لم يخلقه فنحن خارجون منه بلا إخراج.
وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم إنما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليهم ليتدبروه وينظروا فيه فيعلموا بالنظر والاستدلال كونه تعالى عالماً قادراً حكيماً ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحينئذ يقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع، وذلك لا يصح إلا إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم، ويصح منهم أن يقدموا عليه ويتصرفوا فيه.
والجواب عن الكل أن نقول: الفعل الصادر من العبد إما أن يصدر عنه حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر، والأول: باطل، لأن صدور الفعل رجحان لجانب الوجود على جانب العدم، وحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال.
والثاني: عين قولنا لأنه يمتنع صدور الفعل عنه إلا بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال، وإن لم يكن منه بل من الله تعالى، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم.
المسألة الخامسة: احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} فإن معنى الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم، والمراد بهذا الإذن إما الأمر، وإما العلم، وإما المشيئة والخلق. وحمل الإذن على الأمر محال، لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر، فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل، فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق، وأيضاً حمل الإذن على العلم محال، لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق، وذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف.
قلنا: لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه فنقول: المراد بالإذن إما أن يكون أمراً يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم أو لا يقتضي ذلك، فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر ألبتة، فامتنع أن يقال: إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم. وقد دللنا في الكتب العقلية على أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو عين قولنا، والله أعلم.
المسألة السادسة: القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام، احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا: إنه تعالى صرح في هذه الآية بأن الرسول هو الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وذلك يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم.
وجوابنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون كالمنبه، وأما المعرفة فهي إنما تحصل بالدليل، والله أعلم.
المسألة السابعة: الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وأن طريق الخير ليس إلا الواحد، لأنه تعالى قال: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد، وذلك يدل على أن طرق الجهل كثيرة، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا الواحد.
المسألة الثامنة: في قوله تعالى: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} وجهان الأول: أنه بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل كقوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] الثاني: يجوز أن يكون على وجه الاستئناف كأنه قيل: إلى أي نور فقيل: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد}.
المسألة التاسعة: قالت المعتزلة: الفاعل إنما يكون آتياً بالصواب والصلاح، تاركاً للقبيح والعبث إذا كان قادراً على كل المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات، فإنه إن لم يكن قادراً على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز، وإن لم يكن عالماً بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل، وإن لم يكن غنياً عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة، أما إذا كان قادراً على الكل عالماً الكل غنياً عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح، فقوله: {العزيز} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {الحميد} إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد في كل أفعاله، وذلك إنما يحصل إذا كان عالماً بالكل غنياً عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفاً بكونه شريفاً رفيعاً عالياً لكونه صراطاً مستقيماً للإله الموصوف بكونه عزيزاً حميداً، فلهذا المعنى: وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام.
المسألة العاشرة: إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد، لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً، ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً، ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني، فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد، والله أعلم.


{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر {الله} مرفوعاً بالابتداء وخبره ما بعده، وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفاً على قوله: {العزيز الحميد} وهاهنا بحث، وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا: الله جار مجرى الإسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق والحق عندنا هو الأول. ويدل عليه وجوه:
الأول: أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه، فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد، والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق، فلو كان قولنا الله اسماً مشتقاً من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه، وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه، فلو كان قولنا الله لفظاً مشتقاً لكان مفهومه صالحاً لوقوع الشركة فيه، ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجباً للتوحيد، لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جارٍ مجرى الاسم العلم.
الثاني: أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولاً قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت.
الثالث: أن ما سوى قولنا الله كلها دالة، إما على الصفات السلبية، كقولنا: القدوس السلام، أو على الصفات الإضافية، كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا: العالم القادر، أو على ما يتركب من هذه الثلاثة، فلو لم يكن قولنا: الله اسماً للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظاً دالة على صفاته، ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد، لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص.
والرابع: قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على أن قولنا: الله اسم لذاته المخصوصة، وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى: {هُوَ الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24] فإما أن يعكس فيقال: هو الخالق المصور البارئ الله، فذلك غير جائز.
وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤا: {الله الذي لَهُ مَا فِي السموات} بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله: {الله} مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبراً عنه وهذا هو الحق الصحيح، فأما الذين قرؤا: {الله} بالجر عطفاً على: {العزيز الحميد} فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق. وإما أن يقال: الخالق الله فهذا لا يحسن، وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه:
الأول: قال أبو عمرو بن العلاء: القراءة بالخفض على التقديم والتأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات.
والثاني: أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولاً ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال: مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله: {صِرَاطِ العزيز الحميد * الله الذي لَهُ مَا فِي السموات} وتحقيق القول فيه: أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحاً محموداً إذا كان صراطاً للعالم القادر الغني، والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: {العزيز الحميد} ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت الشبهة في أن ذلك العزيز من هو؟ فعطف عليها قوله: {الله الذي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} إزالة لتلك الشبهة.
الثالث: قال صاحب الكشاف: الله عطف بيان للعزيز الحميد، وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم.
الرابع: قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جارياً مجرى الإسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم، وأما في هذه الآية حيث جعل وصفاً للعزيز الحميد، فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظاً مشتقاً فلا جرم بقي صفة.
الخامس: أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزاً حميداً فلما قال: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن، فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال: {الله الذي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
المسألة الثانية: قوله: {الله الذي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة، وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق، لكان حاصلاً في السماء، وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه، فلزم كونه ملكاً لنفسه وهو محال، فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى، وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال.
واعلم أن قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال: {وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} والمعنى: أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضراً ولا نفعاً ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل، فالويل ثم الويل لمن كان كذلك، وإنما خص هؤلاء بالويل، لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه. ونظيره قوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع: الأول: قوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الأخرة} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إن شئت جعلت الذين صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله: {أولئك} وإن شئت نصبته على الذم.
المسألة الثانية: الاستحباب طلب محبة الشيء، وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محباً لذلك الشيء، مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محباً لهما، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له، وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا} يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية، ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلاً عن الحياة الأخروية، وعن معايب هذه الحياة العاجلة، ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة، وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب. فأحدها: أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام والغموم والهموم والمخاوف والأحزان.
وثانيها: أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام، بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات.
وثالثها: أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء.
ورابعها: أنها حقيرة قليلة، وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلاً عن معايبها وكان غافلاً عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية، ولذلك قال تعالى: {والأخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه.
المسألة الثالثة: إنما قال: {يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الأخرة} لأن فيه إضماراً، والتقدير: يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموماً إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموماً حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة.
النوع الثاني: من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}.
واعلم أن من كان موصوفاً باستحباب الدنيا فهو ضال، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين، وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين.
والنوع الثالث: من تلك الصفات قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}، واعلم أن الإضلال على مرتبتين:
المرتبة الأولى: أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم.
والمرتبة الثانية: أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل، وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال، وإليه الإشارة بقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال صاحب الكشاف الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجاً، فحذف الجار وأوصل الفعل، ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم: {أُوْلَئِكَ فِي ضلال بَعِيدٍ} وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه:
الوجه الأول: أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق، فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد، مثل السواد والبياض، فكذا هاهنا الضلال الذي يكون واقعاً على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال.
والوجه الثاني: أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى، لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم.
والوجه الثالث: أن يكون المراد من الضلال الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه.


{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة: {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] كان هذا إنعاماً على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم، وإنعاماً أيضاً على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان، فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين.
أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم، فإنه متى كان الأمر كذلك، كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل، وعن الغلط والخطأ أبعد. فهذا هو وجه النظم.
المسألة الثانية: احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية.
قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل، وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم، وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف، فوجب حصولها بالإصطلاح.
المسألة الثالثة: زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمداً رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين:
الأول: أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب، ومن لا يكون عربياً لم يكن القرآن حجة عليه.
الثاني: قالوا: إن قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] المراد بذلك اللسان لسان العرب، وذلك يقتضي أن يقال: إنه ليس له قوم سوى العرب، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون المراد من {قَوْمِهِ} أهل بلده، وليس المراد من {قَوْمِهِ} أهل دعوته. والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى: {قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] بل إلى الثقلين، لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
المسألة الرابعة: تمسك أصحابنا بقوله تعالى: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ} على أن الضلال والهداية من الله تعالى، والآية صريحة في هذا المعنى.
قال الأصحاب: ومما يؤكد هذا المعنى ما روي: أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما، فقال عليه السلام: «ما هذا» فقال بعضهم: يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا، ويقول: عمر كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر، فتعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه، ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال: «أقضي بينكما كما قضى به اسرافيل بين جبريل وميكائيل، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما» قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه:
الأول: أنه تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ} والمعنى: أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم، فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم على المقصود والغرض أكمل، وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين، فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود.
والثاني: أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم، فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك، وما المقصود من إرسالك، وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل.
الثالث: أنه إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى ومشيئته، وجب أن يكون الرضا به واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، وذلك لا يقوله عاقل.
والرابع: أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدل على مذهب العدل، وأيضاً مؤخرة الآية يدل عليه، وهو قوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ومريداً لها، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ} على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل، وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] ولا بأس بإعادة بعضها، فالأول: أن المراد بالإضلال: هو الحكم بكونه كافراً ضالاً كما يقال: فلان يكفر فلاناً ويضلله، أي يحكم بكونه كافراً ضالاً، والثاني: أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة.
والثالث: أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه.
قال صاحب الكشاف: المراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف.
والجواب عن قولهم أولاً أن قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} لا يليق به أن يضلهم.
قلنا: قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر، فإن كان الفعل الثاني مشاكلاً للأول نسقته عليه، وإن لم يكن مشاكلاً له استأنفته ورفعته. ونظيره قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله} [التوبة: 32] فقوله: {ويأبى الله} في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك، لأنه لا يحسن أن يقال: يريدون أن يأبى الله، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف، ونظيره أيضاً قوله: {لّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام} [الحج: 5] ومن ذلك قولهم: أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه، ومثله قول الشاعر:
يريد أن يعربه فيعجمه ***
إذا عرفت هذا فنقول: هاهنا قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} ثم قال: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ} ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى، كأنه تعالى قال: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى.
أما قوله ثانياً: لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له: ما الفائدة في بيانك ودعوتك؟ فنقول: يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً. وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه.
وأما قوله ثالثاً: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا: ويلزمك أيضاً على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً.
وأما قوله رابعاً: إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدل على صحة الاعتزال فنقول: قد ذكرنا أن قوله: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} يدل على صحة مذهب أهل السنة.
وأما قوله خامساً: أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له. فنقول: وقد وصف نفسه بكونه عزيزاً والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالباً. فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8